
جدل الجماليات وأسئلة الالتزام في (المسافة صفر)
جدل الجماليات وأسئلة الالتزام في ( المسافة صفر )
للأديب الدكتور حسن سالم
د . فؤاد مطلب
عن دار العرَّاب للدراسات والنشر والترجمة في سوريا صدرت للصديق العزيز الأستاذ الدكتور حسن سالم هندي مجموعة قصصية ضمت تجربته في كتابة القصة القصيرة جداً , وهذه هي الطبعة الأولى الصادرة سنة 2024 التي أودع فيها حسن سالم انتباهاته الجمالية ورصده الشفيف لهذا الواقع المحيط بنا ، ومنذ العنوان تأخذك المجموعة القصصية هذه نحو أسئلة الالتزام ف ( المسافة صفر ) جملة انتقلت من سياق إلى آخر ومن حقل إلى آخر بفعل التطورات الأخيرة في المنطقة وفي فلسطين وغزة بالتحديد . أقول تأتي جملة المسافة صفر أول ما تأتي من سياق نقدي معرفي اشتهر بتسليط الضوء عليه الناقد الفرنسي رولان بارت حينما كان يتكلم على أدبية الجملة الشعرية واضعاً معادلته الشهيرة التي تتناسب عكسياً مع الكلام العادي فكلما اقترب الشعر من مستوى اللغة الاعتيادية هبطت اللغة الشعرية الى الدرجة صفر من الكلام والعكس بالعكس ، ثم انتقلت هذه الجملة من هذا السياق النقدي المعرفي الى سياق آخر اجتماعي وانساني يوثق لحظة تصدٍ نادرة في هذا العالم المعاصر هي لحظة تصدي الايمان للكفر بلحاظ تفاوت الإمكانات المادية من جهة والمعنوية من جهة أخرى ، لحظة من يدافع عن وجوده وتاريخه الضارب في الاف من السنين ومن يساق جبراً إلى الحرب كأنهم يساقون الى الموت وهم ينظرون ، وباختصار هي لحظة تصدي الأرض للطارئين عليها ، ومن هنا أخذت هذه الجملة ( المسافة صفر ) حيزاً مهماً من الاهتمام والتداول طوال السنة المنصرمة التي واكبت الهجوم الاسرائيلي الغاشم على أهلنا في غزة مع ذلك التصدي الأسطوري الذي أبداه المقاتلون هناك حتى أن المسافة بينهم وبين الموت كثيراً ما ذابت وتقلصت ووصلت حد أن تكون صفراً من شدة القرب بين الصائل والدافع الذي كثيراً ما أخذ المبادرة وتبادل الأدوار ليصول هو ويقلب الطاولة على ذلك المحتل المستتر خلف الميركافا .
وإذن فقد أراد حسن سالم منذ العنوان أن يبث أسئلة الالتزام عبر الجماليات التي لا تأبه بطبيعتها الصرفة للغائيات وتحفل فقط بما يجعل الجميل جميلاً من غير البحث في غلال النفعية أو السقوط في شرك الأيديولوجيا كما هو مشهور في أدبيات الحقل الجمالي ، ولكننا نأبه إن كانت الجماليات لا تأبه ، ونحفل إن كانت لا تحفل لأن الإنسان ليس منفصلاً عن التاريخ ولا عن الأيديولوجيا ، كما اننا لن نجد أدباً أو فناً في أي مكان على هذه البسيطة بريئاً من الغايات ولا معزولاً عن الانتماءات ، ولذلك نحن نأبه ولذلك أودع حسن سالم أسئلته في صميم الجماليات ليعبر عن صدق انتمائه للأمة والأرض والتاريخ ، ولقد تضافر اللون الخاكي برمزيَّته العسكرية مع الكوفية الفلسطينية برمزيَّتها الواضحة جداً على المقاومة تظافر ليعلنا انتماء حسن سالم لمعنى المقاومة في جملة المسافة صفر وليستدعي عبر هذه الأنظمة الاشارية المتمثلة باللون والصورة نسقاً ثقافياً مضمراً بعينه دون الدخول في معمعة الانساق الثقافية المعرفية الأخرى ليقول انني في صف المقاومة ومع حق الانسان في الدفاع عن أرضه ودينه ومعتقداته ، هذا على صعيد العنوان أما إذا اردتم الغوص في التفاصيل فخذوا نفساً عميقاً ولنبدأ بالإبحار:
أنساق المفارقات المضمرة في القصص القصيرة جدا
لعل من السمات الجمالية الفارقة في هذه المجموعة هو اعتماد الكثير من القصص القصيرة جدا فيها على المفارقة ، ونحن لا نأتي بجديد حينما نلحظ وجود هذه السمة ملمحاً بارزاً من ملامح البنية الجمالية للقصة القصيرة جداً سواء كانت عند حسن سالم أم عند أي كاتب من كتاب القصة القصيرة جداً عربيا وعالمياً ، غير أن ذكاء الكاتب هو الذي يحدث الفارق حينما يختار المفارقة بذكاء ليصير لها بعداً سيميائياً وإشارياً نابعاً من حساسية كل لغة أدبية وكل مجتمع لغوي منتج لهذه اللغة أو تلك ، وفي القصة القصيرة جدا التي عنوانها " هراتي " يبدو ذلك واضحاً :
جاع الملك فأمر الوزير بذبح كل طيرٍ لا يطير- استعمل الديك صلاحياته الذكورية كلها –
في اليوم التالي سألوا الدجاجة عن مصدر كل هذا البيض ؟ فطأطأت رأسها بحزن : إنه للديك سيدي .( المسافة صفر : 11 )
فالمفارقة موجودة بشكل بارز في بنية هذه القصة القصيرة جدا حينما تفاجئ القارئ بأن الذي يبيض هو الديك وليس الدجاجة وذلك واضح إلى درجة يمكن التنبؤ بها بسبب النسق العلاماتي المميز للنص والذي يتمحور حول فعل الطأطأة التي تقترن ثقافياً بذكر ما يستوجب ( غض الطرف ) والاستخذاء ، فهل مجرد كونك ذكراً في البلاد القابعة تحت نير الظلم والاستبداد يكفي جرماً يطأطئ الرأس ويندى منه الجبين ؟ أم أن فعل الطأطأة يشير إلى الاقتران الدائم بين هذا الفعل وفعل الاعتراف أو الوشاية ؟ تلك الوشاية التي اقترنت في الكثير من أدبيات الأمة بالخيانة والغدر والطعن في الظهر ليصبح النص مستنداً الى أنساق مضمرة كثيرا ما جمعت بين الوشاية وبين الاستخذاء وغض الطرف ؟ ان النص يسمح باستنطاقه عبر عمليات متعددة من التأويلات الثقافية التي تشير الى العادات والتقاليد وظلال المعنى التي تعلق بكلمة ما ويكون المجتمع اللغوي مسؤولا الى حد كبير عن انتاجها وإنتاج دلالاته النسقية التي لا تغفل المعنى السياقي ولكنها في الوقت نفسه لا تعتمده اعتمادا مدرسيا بل تتجه الى إعادة الاعتبار للسياق من طريق دمج المصطلحين ( السياق والنسق بمعناه البنيوي ) ليكونا معاً مصطلحاً ثقافياً جديدً ينطلق من النص ولا يهمل الخصوصيات الثقافية للمجتمعات اللغوية .
تؤدي المفارقة في هذا السياق دوراً حاسماً حينما تعمد الى إنتاج معنى ثقافي محلي خاص داخل تلافيف النص اللغوي الذي تتسم علاماته بكونها تحفظ البصمات الوراثية للمجتمع اللغوي الذي أنتجها وتأثر بها – يا للمفارقة - ، فالخطاب الذي نصنعه كما يقول فوكو يمارس التأثير نفسه على وعينا بالقدر نفسه الذي يحتضن هذا التأثير ويتلقاه بعده مكاناً للوعي وبيتاً للمعنى على حد قول الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر . في القصة القصيرة جداً التي تحمل اسم " رصاصة طائشة " يتم التعامل مع المعنى على أنه وليد تضافر أنساق ثقافية متعددة بعضها يطفو على السطح بينما يستقر البعض الآخر في القاع البعيد للنص بعده نسقاً مضمراً يقيم حوارات متعددة مباشرة وغير مباشرة مع النص والذاكرة والتاريخ :
صوَّب بندقيته إلى السماء
ابتهاجاً بزواج ابنه
نثرت أمه الحلوى ..
فتساقط ريش أبيض
أي ريش أبيض يمكن أن يتساقط ليلة زفاف الإبن ؟ هل هو استعارة عن الأيام التي تجمعت على شكل بياض ليدرك معناهما الأشيب الوالدان في لحظة وعي حرضت عليها المناسبة ؟ أم ان نفسا بشريا جديدة حطت بجناحيها على العائلة وهذا الريش بعض الأدلة المنثورة في مسرح العرس ؟ لم الاستغراب ؟ ألم يخاطب ابن سينا النفس البشرية بوصفها ورقاء :
نزلت إليك من المحل الارفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
ان التراث الادبي العربي بنوعيه الصوفي والوجداني كليهما لهو حافل بلحظات التمثيل الثقافي هذه التي تجمع بين النفس البشرية والطائر ، وبين المحبوب والطائر وبين الحقيقة والطائر أيضا .
ومع احتشاد النص بزمرة من التمثيلات الثقافية الزاخرة بالمعنى ألا يمكن أن تشكل صورة الريش الأبيض المتناثر إدانة للخطاب الذكوري والاستبدادي الذي يتصف به الانسان إزاء التعامل المنتهك لعقد الشراكة الذي يجمعه مع البيئة ؟ شريكته المعطاء وشاهدته كلما احتاج الى شهود وهي الدليل له او عليه كلما تعلق الامر بالحس البيئي والتعامل العادل .
وأخيراً يمكن أن أستعير النص المستهدف الأخير من نصوص حسن سالم لأقول : إن المسافة بيننا مخلوقات واعية ومتسلطة هي مسافة صفر تجمعنا بشركائنا أو ضحايانا بحسب التأويل الثقافي الذي يؤطر العلاقات الثقافية بالحب أو الحرب ، غير أن الحقوق لا تمحى بالتقادم ولا تنسيها السنين .