الترجمة

الترجمة

 

الترجمة "انتيكة"

أ.م.د. ياسر عبد الستار مطر العاني

yasir.mutar@uoanbar.edu.iq

كلية الآداب/قسم الترجمة

 

لي خال قضى شطرا من حياته متنقلا بين بعض مدن البلدان الأوربية في سبعينات وقسم من ثمانينات القرن الماضي. ومن ضمن تلك البلدان والمدن زار مدينة لندن وبقي فيها فترة من الزمن ويبدو انه كان مبهورا بدقة المواعيد والنظام والخدمات واختلافها عن منطقتنا العربية وكان كلما زارنا يقول لي: لم لا نذهب سوية إلى لندن لأريك الحياة هناك ونتكلم اللغة الانكليزية مع متحدثيها الأصليين. وشاء الله أن تكون دراستي في إحدى بلدان جنوب شرق آسيا في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة وكان ذلك البلد الآسيوي سائرا في ركب التمدن. وفي إحدى زياراتي للعراق أثناء الدراسة التقيت بخالي وجرى نفس الحديث القديم. فقلت له إن ذلك البلد الآسيوي فيه العديد من المراكز البريطانية لتعليم اللغة والمدرسون فيها من أصول بريطانية ولا داعي للذهاب إلى لندن فهي غالية جدا وترتيبات السفر إليها مرهقة ومكلفة فقال لي: "بس لندن تبقى أنتيكة" ويعني بذلك أنها جزء من التراث الثمين الذي يبقى محافظا على قيمته مهما طال به الزمن. وبقيت كلماته ترن في إسماعي ثم فكرت في علم الترجمة الذي ندرسه وندرّسه وما مصيره مع هذا التطور التقني الهائل الذي يكاد يدخل في أدق تفاصيل حياتنا. هل نحتاج لكل هذا الكم من التنظير ودراسة تاريخ الترجمة وحنين بن اسحق و يحيى بن البطريق ومن بعدهم وصولا إلى كاتفورد و نيومارك و فينوتي  أم يكفينا  أن نعلم طلابنا بضغطة الزر تلك لكي تقوم الآلة بالعملية كلها؟ إن مما يروج له البعض أن علم الترجمة هو من العلوم التي سيحل محلها الذكاء الاصطناعي بالكامل كما فعل مع العديد من العلوم والمهن. جدير بالذكر أن إدخال الآلة في الترجمة عملية قديمة وحدث فيها تطور كبير ولا شك أن الزحف التقني يسير بسرعة مخيفه, إلا أن هذا التطور يحدثه الإنسان أي انه سيبقى محصورا بما يبدعه الإنسان كما أن الإبداع اللغوي وتركيب الكلمات لا تحسنه الآلة وبإمكانك أن تجرب وتطلب من الذكاء الاصطناعي أن ينشأ لك قصيده فهل يستطيع؟ إن الذكاء الاصطناعي يبني إجاباته وتطوره على ما تم مسبقا فالخيال اللغوي البشري يفوق التصور واستخدام المفردات وتركيبها بشكل إبداعي لا تحسنه الآلة وهذا بالطبع سينسحب على علم الترجمة والذي سينحصر الذكاء الاصطناعي فيه على ما تم ترجمته مسبقا. ولكن ماذا سيحصل للإبداع الحالي؟ إذاً ما دام الإبداع البشري متجددا والخيال اللغوي متطورا فكذلك الآلة لا تستطيع ترجمة الإبداع المتجدد إلا إذا تم تغذيتها بما سبق ترجمته وإبداعه. اذاً لا تستطيع الآلة مجاراة الإبداع اللغوي وتطوره مهما تعقدت وتطورت. مثال بسيط على تطور اللغة وهو مثال طريف حينما يبدأ طفل صغير في العائلة  في اكتساب اللغة ويسمي بعض الأشياء بغير مسمياتها فترى العائلة, تعاطفا معه, تقوم بترديد تلك المسميات الجديدة. أي أن بإمكانه تسميه الأشياء من منظوره هو كطفل. وتجدر الإشارة إلى أن الترجمة  كعلم لا يزال قاصرا أصلاً عن ترجمة العديد من النصوص. فالنصوص الدينية والمستوى العالي والرفيع من الأدب ما هو إلا أمثلة على قصور الذكاء الاصطناعي وما هو موجود الآن من ترجمات هو محاوله لتقريب الصورة لا أكثر إلا أننا لا يجب أن نقلل من دور الذكاء الاصطناعي ودوره في مساعدة الأستاذ والطالب معا ,فضلا عن المترجم, على تحقيق أفضل النتائج في الترجمة. فبإمكاننا تصوير نقل النص من لغة إلى أخرى كمثل نقل بعض الأعضاء من جسد إلى آخر كالكلية مثلا. فقبل النقل يجب أن يكون هناك تقارب عام بين العضو الجديد والجسد فالعضو الجديد هو النص والجسد هو اللغة التي سينتقل إليها ذلك النص فالجسد يجب عليه أن يحقن بأدوية تساعد على التقليل من رفض العضو الجديد فيجب تهيئة البيئة المناسبة حتى يعمل فيها العضو الجديد. فلكي ينقل النص إلى لغة أخرى يجب أن ينقل مع بيئته التي كان يعمل فيها حتى تتم عملية الاستقبال بنجاح في البيئة الجديدة وهذا يتطلب إجراءات عديدة لا يزال الذكاء الاصطناعي قاصرا عنها. إن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه إلا نقل العضو المحدد فقط ولا يمكنه نقل البيئة لأنه قاصر عن فهمها أصلا. وهناك أمر آخر وهو خيارات الترجمة. فالنص يحتمل عدة أوجه أي عدة ترجمات  والذكاء الاصطناعي لا يعطي إلا وجها واحدا. فهناك مترجم يرى أن النص يجب أن يترجم حرفيا وآخر يرى أن تتم الترجمة بتصرف. وهناك الأعمال التجارية التي تتطلب وضعا خاصا في الترجمة إضافة إلى أمور أخرى منها الترجمة الممزوجة بلغة الجسد والتي سيبقى الذكاء الاصطناعي قاصرا عنها. فعلم الترجمة سيبقى "انتيكة" ما دام الإبداع اللغوي البشري موجودا. 

 

الكلمات المفتاحية  

#الترجمة #لذكاء الاصطناعي #الإبداع اللغوي #كلية الآداب – جامعة الأنبار #قسم الترجمة